تهويد القدس أولاً وآخراً، ذلك هو الحلم الصهيوني الذي لا تراجع عنه، مهما تكن الأسباب والظروف. في القدس بدأ المشروع الاستيطاني اليهودي، وبالقدس يستكمل حلقاته الأهم. والقدس هي كما يقولون، هي قلب الصهيونية، أو هي جوهر المشروع الصهيوني ومآله الأخير، الديني والسياسي.
إن الصهيونية هي فكرة علمانية يهودية، وهي كناية عن مشروع إقامة وطن قومي يهودي. وقد استغلت النصوص الدينية الغامضة في التوراة، حتى تدفع يهود العالم الى التوافد الى ما سُمِّي بأرض الميعاد. ولما كانت النصوص التوراتية مع ما تنطوي عليه من تنبؤات وما توحي به من تفسيرات مختلفة، تلتقي مع أفكار بروتستانتية معينة، تنتظر ظهور المسيح مرة أخرى، في آخر الزمان، عند ذلك، اجتمعت التبريرات الدينية مع المصالح السياسية، لتعطي دفعاً هائلاً لمشروع إقامة الكيان الصهيوني بالاستفادة من المعطيات الدولية غير المتوازنة آنذاك.
غير أن الادعاء بحقوق يهودية تاريخية في القدس كما في فلسطين، كانت تعوزه الوقائع والأرقام، والحديث عن يهودية القدس لا يستقيم من دون وجود يهودي كثيف ومستقر. من أجل ذلك، كان التنافس المحموم بين زعماء الصهيونية، لاغتنام كل فرصة ممكنة، للسيطرة على كل دونم متاح من الارض، بجميع الوسائل، كرهاً أو طوعاً، بالخداع والحيلة أو بالتفاوض، لا فرق ما دامت النتيجة ستكون واحدة.
لقد مضى قرن كامل منذ أن انعقد المؤتمر الصهيوني الأول في بال بسويسرا، والواقع أن الاستيطان في القدس قد انطلق قبل عام 1897، بستين عاماً، وان كان بخطوات، قليلة وخجولة، على يد متمولين يهود متحمسين أمثال مونتيفيوري روتشيلد. ففي عام 1827، بدأت رحلات عملية لاقامة أحياء يهودية في القدس. وفي الفترة الممتدة بين عامي 1842 و 1897، أُقيمت أحياء وكُنُس عدة، وبُنيت 27 مستوطنة في منطقة القدس وما حولها، احداهن أنشئت بطريق الخداع، عام 1859، إذ قيل وقتها ان المنشآت لبناء مستشفى، ولكن الحقيقة أنها كانت مساكن شعبية لليهود. وتم بناء أحياء يهودية على امتداد الطرق المؤدية الى بوابات المدينة الغربية والشمالية والجنوبية. وجرى ذلك تحايلاً على القانون وبمساعدة من القنصل البريطاني في القدس. فلم تدخل القوات البريطانية مدينة القدس 11 كانون الاول / ديسمبر 1917، إلا وكانت المرحلة الاولى قد نُفِّذت، لمحاصرة القدس وتحقيق الاكثرية اليهودية فيها.
وما بين عامي 1897 و 1930، أنشئت 24 مستوطنة يهودية أخرى، داخل القدس وفي ضواحيها، ليصل العدد الى 51 مستوطنة. وتحولت المدينة الى نقطة ارتكاز أساسي، لتوسيع الاستيطان، وهكذا أقامت جماعة يهودية من المقيمين في القدس، أول مستوطنة يهودية على ارض فلسطين، وكانت تسمى (بتاح تكفا).
وفيما عدد اليهود في القدس كان لا يتجاوز 3 آلاف نسمة، عام 1880، أمسى عام 1918، 10 آلاف نسمة. وتقول معلومات إسرائيلية رسمية، أن عدد السكان اليهود لدى نشوب الحرب العالمية الاولى عام 1914، كان 35 ألف نسمة (في فلسطين)، بالمقارنة مع خمسة آلاف يهودي فقط في أوائل القرن السادس عشر
ومع رسو سلطة الانتداب البريطانية في فلسطين، تلقت الوكالة اليهودية 117 الف دونم، اقتطعت من الاراضي الاميرية التابعة لقضاء القدس، أي ما نسبته 7% من مساحة المدينة. والاراضي الاميرية هي العقارات التابعة لملك الدولة. وكان الجنرال اللنبي بعد أيام من دخوله القدس، قد كلف أحد المهندسين البريطانيين بوضع خطة هيكلية لمدينة القدس، فوضع لها تصميماً يقسمها الى اربع مناطق هي، البلدة القديمة واسوارها، المنطقة المحيطة بالبلدة القديمة، القدس الشرقية والقدس الغربية. وضمت المستوطنات اليهودية المحيطة بالقدس الى حدود البلدية المقترحة للمدينة. وهكذا امتد خط حدود المدينة من الجهة الغربية عدة كيلومترات، بينما اقتصر الامتداد من الجهتين الجنوبية والشرقية على بضع مئات من الامتار. وتوقفت الحدود أمام مداخل القرى العربية المجاورة للمدينة، ومنها قرى عربية كبيرة، مثل الطور وشعفاط ولفتا، ودير ياسين، وسلوان والعيسوية وعين كارم والمالحة وبيت صفافا، مع أن هذه القرى تقع على تخوم المدينة، حتى تكاد تكون ضواحي لها. وكانت إعادة النظر بالحدود البلدية، عام 1921. واعيد النظر فيها مرة أخرى عام 1946، عندما وضعت السلطات البريطانية مخططاً هيكلياً جديداً للمدينة يوسِّع الجزء الغربي من القدس، وذلك استيعاباً للأحياء اليهودية الجديدة ضمن الحدود البلدية، فشهدت القدس بعد ذلك نشاطاً استيطانياً مكثفاً. واثناء توسعة حدود المدينة، تدفقت الاموال لتجعل من القدس مركزاً سياسياً وادارياً وتعليمياً، فأصبحت المدينة مقراً للجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية العالمية، والوكالة اليهودية، والصندوق القومي اليهودي.
ودُشنت الجامعة العبرية (1925). وافتتح مستشفى هداسا الجامعي (1939). واقامت الحركة الصهيونية عدداً من المؤسسات على هضبة المشارف، في شمال شرق المدينة القديمة، مما جعلها شبه محاصرة.
وبالتوسعة البلدية الثانية، بلغت مساحة المدينة 19331 دونماً، منها 868 دونماً هي مساحة المدينة القديمة، و 18463 دونماً خارج الاسوار. وتوسعت المساحة المبنية في المدينة من 4130 دونماً سنة 1918، الى 7230 دونماً سنة 1948.
ثم قررت الامم المتحدة تقسيم فلسطين بقرارها المشؤوم رقم 181، مع الايحاء بتدويل القدس وادارتها من قبل المنظمة الدولية. وحدَّد القرار المنوه عنه حدود القدس الخاضعة للتدويل بحيث شملت عين كارم وموتسافي في الغرب، وشعفاط في الشمال، وأبو ديس في الشرق، وبيت لحم في الجنوب. واندلعت حرب 1948، ليسيطر اليهود على الجزء الغربي من المدينة، وهو ما تم تكريسه في اتفاق الهدنة مع الاردن عام 1949. في ذلك الوقت، ضُمت الى القدس القرى العربية المحاذية مثل بيت صفافا، لفتا، عين كارم، والمالحة، ودير ياسين. وفي عام 1952، صودق على مخطط بلدي جديد، يضم الى القدس ضواحي سلوان ورأس العمود والصوانة وأرض السمار، والجزء الجنوبي من شعفاط، وأصبحت مساحة البلدية 6.5 كيلومتر مربع.
وأتت حرب الايام الستة عام 1967، لتسقط فلسطين كلها بيد اليهود. وقد جمع الجنرال الصهيوني موشيه دايان بعض ضباطه وعدداً من المهندسين، واعطاهم التعليمات الفورية بايجاد واقع جديد في القدس. وبالفعل، وفي غضون أيام قليلة بعد الاحتلال، هُدمت «حارة المغاربة» بكاملها، بحجة «عدم صلاحيته للسكن»، وفي أقل من ثلاث أرباع الساعة، طُرد الف مواطن عربي من المنازل، رغم احتجاجات دائرة الوقف الاسلامي. وانشئت ساحة «حائط المبكى» وتغير الاسم القديم «حائط البراق». وكان الهدف المباشر، حسب المعلومات الرسمية، تحقيق التواصل بين نصفي المدينة في أسرع وقت ممكن قبل أن يتم بذل أي جهد دولي هادف لاعادة تقسيم المدينة، ومن اجل ذلك صودرت مساحة 17.700 دونم من الاراضي!
وكان الهدف الابعد، تهويد القدس وترسيخ وضعها كعاصمة أبدية للكيان الصهيوني. لذلك اتخذت الحكومة الصهيونية إجراءات عدة لتكون قيد التنفيذ:
- فتح الطريق الموصل الى حائط المبكى أو حائط البراق.
- بناء الحي اليهودي في المدينة القديمة.
- تنشيط الحياة في مجمع جبل المكبر، حيث توجد مؤسسات حيوية، مثل مستشفى هداسا والجامعة العبرية.
- ربط جبل المكبر بالقدس بواسطة مبانٍ سكنية.
- بناء سور آخر حول القدس كجزء من عمل دفاعي ضد أي عمل عسكري عربي.
- توطين 7 آلاف يهودي كدفعة أولى في المنشآت الجديدة.
وفي عام 1968، كانت الحكومة الصهيونية تعمل بجد وفق «خطة توحيد القدس»، ولهذا تم الإسراع في إنشاء الحي اليهودي، واستيطان التل الفرنسي، استيطان راموت اشكول. وطُوقت القدس بقوس عملاق من الابنية العمودية الضخمة، على شكل سور دفاعي هائل. وذلك من خلال مشروع القدس الكبرى الذي يضم عشر مدن تحيط بالقدس!
ومن عام 1968، حتى اواخر السبعينات، صودرت 3345 دونماً من اراضي منطقة الشيخ جراح ووادي الجوز وأرض السمار لتقام عليها احياء يهودية بدأت تغلق الافقين الشمالي والغربي، حتى استملك اليهود الممتلكات الشخصية والوقفية للسكان العرب بين حارة الارمن وحي المغاربة.
وفي عام 1980، أقر الكنيست الصهيوني قانوناً جديداً باسم « قانون اساسي: القدس عاصمة اسرائيل ». ويمنع هذا القانون أي حكومة صهيونية من التوصل الى اتفاق يمس وضع السيادة الصهيونية على القدس. ومنذ ذلك الحين، صودرت مساحات من اراضي قريتي بيت حنينا وشعفاط تبلغ 4400 دونم لاقامة مستوطنتي بسغات زئيف وبسغات أومير. هكذا اضحت 33% من مساحة القدس الموسعة أي ما يقارب 24 كلم2، في حين لم تكن الممتلكات اليهودية تزيد عن 17% من مساحة القدس بأكملها أي 5 آلاف دونم عشية حرب 1948!
وبدءاً من عام 1987، بدأت حملة جديدة بقيادة ارييل شارون وزير البناء والاسكان في حكومة الائتلاف، وذلك باحتلاله مبنى عربياً في احد الاحياء الاسلامية بالقدس، وتبعتها خطوات أخرى في القرى والمدن المحيطة بالقدس من جانب المنظمات اليهودية المتطرفة.
وكان مجمل النشاط الاستيطاني في القدس مؤداه رفع عدد السكان اليهود في الجزء الشرقي من صفر عام 1967، الى اكثر من 165 الف مستوطن حتى عام 1995، مقابل العدد نفسه من الفلسطينيين. وقد احتلت سلطة الاحتلال 32 قرية تحيط بالقدس ودمرتها عن آخرها، وأقامت على انقاضها مستوطنات، كما صادرت اكثر من 24 الف دونم خلال 28 عاماً منذ حرب 1967.
وبنتيجة الخطط المتتالية، وقعت القدس داخل ثلاث احزمة استيطانية، الاول يحاصر البلدة القديمة وضواحيها ويربطها بالجزء الغربي، عندما انشئ الحي اليهودي داخل السور الاثري، والحديقة الوطنية حول شرق السور وجنوبه، والمركز التجاري الرئيسي ضمن هذا الحزام.
الحزام الثاني، يحاصر الاحياء العربية خارج السور في المناطق الواقعة داخل حدود بلدية القدس في العهد الاردني، وذلك بمستوطنات من ثلاث اتجاهات، على شكل اقواس تعزل المدينة عن الكثافة العربية.
الحزام الثالث، يهدف الى حصار القدس الكبرى ثم تهويدها وتصفية الوجود العربي.
أما الحزام الرابع، وهو المتمثل بالمشروع الاستيطاني في جبل أبو غنيم فسيستهدف عزل القدس من بيت ساحور من الجهة الجنوبية الشرقية.
ومن الجدير ذكره ان اتفاقات أوسلو عام 1993، أفسحت المجال أمام استئناف أعمال التهويد لمدينة القدس. بما ان الاتفاقيات لم تتضمن شيئاً حاسماً بالنسبة لمصير القدس، حيث تم التوافق على تأجيل البت بالمسألة الى مفاوضات المرحلة النهائية.
وتشير المعلومات الرسمية الاخيرة في الكيان الصهيوني، عن مدى التقدم الذي أحرزته عمليات التهويد المستمر، ففي تقرير « معهد القدس لأبحاث اسرائيل » بلغ عدد سكان القدس الموحدة نهاية 1995، 583.6 الف نسمة، بينهم 431.7 ألف يهودي، مقابل 171 الف عربي. وبلغت نسبة اليهود في القدس الشرقية، في الفترة عينها، 48.9% مقابل 51.1% للعرب. ومن المتوقع أن يصل عدد سكان القدس الى نحو 817.5 الف نسمة عام 2010 .
مع العلم، ان سلطات الاحتلال تضع يدها حالياً على 74% من مساحة القدس الشرقية، ويبقى بيد الفلسطينيين 14% فقط، مع حذف المساحات المرصودة للطرق الالتفافية وتلك التي تُصنف على انها مساحات خضراء يُحظَّر البناء فوقها. بل ان معلومات صحيفة هآرتس تؤكد ان مشروعاً هو قيد الدرس يقضي بتوسيع بلدية القدس حتى تشمل المستوطنات في الخان الاحمر شرقاً، وجبهات زئيف وكل مستوطنات شمال القدس للوصول الى غالبية يهودية تبلغ 80% . هذا في وقت تضيّق في الاجراءات على سكان القدس من الفلسطينيين. من خلال عرقلة البناء ورفع كلفة الرخصة وسحب اجازات الاقامة تحت حجج واهية..